إلى المحتوى الرئيسي

معالم سياسة الشـرق الأوسـط

حوار مع هينر فورتيغ، مدير معهد "غيغا" لدراسات الشرق الأوسط في هامبورغ.

23.06.2015

"السلطة المدنية" - هدفٌ نذرت له نفسها جمهورية ألمانيا الاتحادية الفتيّة بعد ما مرّ بها من أهوال الحرب العالمية الثانية. لا يجوز استخدام الوسائل العسكرية في نطاق السياسة الخارجية. فالدستور الذي صدر سنة 1949 يعرّف الجمهورية الاتحادية على أنها نظام أمن جماعي تندرج تحته السيادة الوطنية.

 

أما جمهورية ما بعد عودة الوحدة، فهي لم تتراجع عن مبدأ الأمن الجماعي بعد عام 1990، لا بل أكثر من ذلك، فقد دعت الحكومات الألمانية المُتعاقِبَة إلى تبنّي السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي، وتخلت هذه الحكومات تدريجياً عن مبدأ الاقتصار على الوسائل السلمية في السياسة الخارجية.

 

وبعد أن صادقت المحكمة الدستورية العليا سنة 1994، من حيث المبدأ، على إرسال بعثات عسكرية إلى الخارج، حارب الجيش الاتحادي في البلقان وكذلك في أفغانستان بين عامَي 2002 وحتى 2014. وهكذا تحولت ألمانيا من "مستفيد" من الأمن العالمي إلى "منتِج" لهذا الأمن. ومع أنّ ألمانيا قد برهنت بتدخلها في أفغانستان، على تحررها السياسي في سياق سياستها في الشرق الأوسط، لم تأخذ هذه المنطقة دوراً مميزاً في السياسة الخارجية. ويُعيد المراقبون ذلك، أخيراً وليس آخراً، إلى "تقسيم معيّن للعمل" ضمن الاتحاد الأوروبي بعد عام 1990. وقد كان الهدف الأساسي الذي أخذت ألمانيا مسؤوليته على عاتقها هو العمل قدر الإمكان على تكامل أوروبا الشرقية مع دول الاتحاد الأوروبي، دون نزاعات كبرى ذات أهمية. إلاّ أنّ هناك خصوصية مميزة للسياسة الألمانية في الشرق الأوسط، ألا وهي المسؤولية التاريخية لألمانيا عن أمن إسرائيل. تعترف ألمانيا ولا شك، بحق الفلسطينيين في دولة فلسطينية ذات سيادة، كما تعتقد أن الحلّ السلمي الذي ينتهي بوجود دولتين هو الحل الوحيد الذي يمكن - من وجهة نظر ألمانية - أن يحقق المتطلبات الشرعية لكلا الطرفين. مع ذلك فالكثيرون من أبناء الشرق الأوسط يرغبون بمساهمة سياسية ألمانية أكبر وأعمق وأكثر استقلالية في شؤون الشرق الأوسط. وعلى القوة الاقتصادية الكبرى في الاتحاد الأوروبي، التي ليس لها ماضٍ استعماري في المنطقة يثقل كاهلها، أن تقوم الآن بدور متوازن.

 

لقد زادت ثورات الربيع العربي من هذه التوقعات. فالتشابه البادي للعيان بكل وضوح في البنية الحاكمة المسيطرة في كل من ألمانيا الديمقراطية السابقة ونظام مبارك في مصر - الحكم الاستبدادي المطلق والنظام الحزبي المتعدد ولكنّه المُسيّر، والمؤسسات ووسائط الإعلام الموجّهة - يمكن أن تؤدي كلها في الحقيقة إلى تبادل كثيف في الخبرات مع ألمانيا وتؤسس لدور الناصح والمرشد. ولكن في الواقع لم يهتم الرأي العام الألماني ولا السياسة الألمانية بالأحاسيس الطيبة لتلك الجهود التي تسعى إلى بناء الديمقراطية في مصر وفي بلدان عربية أخرى. لقد أرسلت ألمانيا فرقاً لمراقبة مجرى الانتخابات في كل من مصر والأردن وليبيا والجزائر. كما تم التوقيع على اتفاقات لشراكة التبادل مع تونس. وفي عام 2012/2013 قدمت الحكومة الألمانية الاتحادية تمويلا إضافيا بقيمة 100 مليون يورو من أجل أعمال التبادل ودعم التحولات في البلدان العربية التي تشهد مراحل التغيير. 60% من هذا التمويل الإضافي الذي قدمته وزارة الخارجية الألمانية تم تخصيصه لمشروعات في المجالات السياسية والاقتصادية، و40% في مجالات التعليم والعلوم. وقد تم الآن تكريس هذه المعونات بشكل دائم، حيث تبلع حاليا حوالي 50 مليون يورو سنويا. أما تنفيذ خطط التعاون ونقل الخبرات ودعم التحولات فهو يتم بالتشاور والتعاون الوثيق مع وزارة التعاون الألمانية BMZ، وبشكل تكميلي ضمن إطار التعاون في مجالات التنمية.

 

ومع ذلك فإن دور الناصح والمرشد في هذه المنطقة دورٌ غير قابل للتحقيق من ناحية، وغير مرغوب به من ناحية أخرى. فالتوجهات الحالية في هذا الربيع العربي، نحو الركود أو نحو مراجعة الأوضاع القائمة، تختلف بنيوياً بشكل كبير بين أوروبا الوسطى والعالم العربي: فبينما استطاعت ألمانيا الديمقراطية السابقة أن تنخرط، بولاياتها الاتحادية الخمس، في الجو الديمقراطي العريق للجمهورية الاتحادية، لا يمكن الكلام عن إعادة مثل هذا النموذج في العالم العربي.

 

 مع ذلك، فإنّ الربيع العربي قد بعث الحياة في السياسة الألمانية الشرق أوسطية، فقد تدخلت ألمانيا، خلال وقت قصير، بنشاطات ذاتية بشكل واضح. ففي سنة 2012 لم تشارك ألمانيا - على عكس شركاء كبار لها في الاتحاد الأوروبي - بإسقاط نظام حكم معمر القذافي في ليبيا بالقوة العسكرية. وفي سنة 2014 ساعدت الحكومة الألمانية الأكراد عسكرياً في دفاعهم عن أنفسهم ضد الدولة الإسلامية (داعش). وها هي تعتبر الوسائل العسكرية مرة أخرى، أمراً ضرورياً في السياسة الخارجية. ومن الجدير بالذكر أيضا هو المساعدات الإنسانية، فمنذ المؤتمر الدولي الذي عُقد في برلين حول اللاجئين في سوريا والدول المجاورة في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2014، تحمل ألمانيا مسؤولية التنسيق. ومنذ بداية أحداث "الربيع العربي" أخذت تبدو في الأفق بشكل واضح، معالم سياسة خارجية ألمانية مستمرة وفعّالة في الشرق الأوسط.

البروفيسور د. هينر فورتيغ، هو مدير معهد "غيغا" لدراسات الشرق الأوسط