أفكار جديدة مستدامة
يمكن تحقيق الاستدامة بالعديد من الطرق والوسائل التي يتيحها التعاون في مجالات التنمية.

كينياتنتصب الصخور في كينيا شامخة نحو السماء. المشهد جميل من أعلى الصخور الشاهقة، يطل على سهول خضراء وبحيرات زرقاء، بساتين وبراكين. يعود جمال وسحر "وادي التصدعات" الكيني إلى الصدام الجيولوجي بين الصفائح القارية الهندية والأفريقية، والذي خلف هذا الوادي الانهدامي الساحر على مدى 35 مليون عاما. هذه الطبيعة المتميزة التي تكاد تكون فريدة من نوعها، تجتذب آلاف السياح سنويا إلى مناطق شمال غرب البلاد، شأنها شأن بحيرات المياه المعدنية، حيث تعيش مئات الآلاف من طائر الفلامينغو (البشروس). إلا أن الجيولوجية تخفي كنوزها أيضا في باطن الأرض. على عمق لا يتجاوز 1000 متر عن سطح الأرض يوجد مخزون من بخار الماء لا تقل حرارته عن 200 درجة مئوية. استخراج هذا البخار يساعد على تشغيل عنفات لتوليد طاقة كهربائية نظيفة، دون أية غازات عادمة. لهذا السبب تقدم ألمانيا الدعم للحكومة الكينية والشركات المستثمرة، في سبيل الاستفادة من هذا المصدر النظيف للطاقة. وبتفويض من وزارة التنمية يقدم بنك التنمية KfW المساعدة من أجل بناء وتوسيع ثلاث محطات للطاقة الجوفية. "يقول نوربرت كلوبنبورغ، عضو مجلس إدارة KfW: "سيكون بمقدور هذه المحطات توليد طاقة كهربائية بكفاءة اقتصادية عالية وأسلوب بيئي مناسب نظيف". وتشكل المحطات العاملة بالطاقة الجوفية جزءا مهما من قطاع توليد الطاقة في كينيا. حيث تشكل الطاقة الجديدة التي سيتم إنتاجها العصب الأساس للتنمية المستدامة في البلاد. ولكن ما الذي تعنيه التنمية المستدامة؟ حسب التعريف المتواتر، فإن هذا المصطلح يعني التصرف الآن بحيث لا يؤثر النمو اليوم بشكل سلبي على أسس الحياة المستقبلية، ولا على إمكانات النمو الاقتصادي للأجيال المقبلة. وتقوم هذه التنمية على مساعدة البلدان على تحقيق النمو ومساعدة الذات دون الإضرار بالمناخ أو البيئة. وتتبع سياسة التعاون التنموي الألمانية هذا المبدأ منذ اعتماد مبدأ التنمية المستدامة كأسلوب عالمي شامل للتعاون والتنمية، خلال مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية المنعقد في ريو دي جانيرو في العام 1992. الطاقة هي أساس التنمية. وحيث تتوفر الطاقة، يمكن للناس القيام بزراعة حقولهم، وصناعة منتجاتهم، وتأسيس شركاتهم. باختصار: يمكنهم مساعدة أنفسهم والاعتماد على الذات. توليد الطاقة بالطرق المستدامة يمكن أن يكون له وجوه وأساليب متعددة. حيث يجب أن تكون الطاقة متوفرة للجميع على الدوام، كما يجب أن تكون غير ضارة بالمناخ والبيئة (حيادية). إلا أن الحقيقة غالبا ما تبدو مختلفة عن هذا. ففي كينيا على سبيل المثال يحصل خمس العائلات فقط على الكهرباء من الشبكة العمومية للتزود بالتيار الكهربائي. كما أن الحاجة للكهرباء في البلاد تنمو بمعدلات أكبر من نمو الطاقة الإنتاجية لمحطات التوليد. علاوة على أن الأعطال تصيب الشبكات باستمرار. لهذا السبب تعتبر الإمكانات التي تتحيها الاستفادة من الطاقة الجوفية خطوات مهمة جدا. أثيوبياليس من الضرورة أن تأتي الطاقة المتجددة من قابس الكهرباء. تنشط في أثيوبيا مؤسسة التعاون الدولي الألمانية المحدودة المسؤولية (GIZ) بتفويض من الوزارة الاتحادية للتعاون الاقتصادي والتنمية (BMZ)، وذلك من أجل تجهيز أفران حديثة للطبخ. ويتم هذا المشروع ضمن إطار شراكة الطاقة الألمانية الهولندية النرويجية "تنمية الطاقة" (EnDev)، والتي تسعى حتى نهاية 2012 إلى تأمين التزود بالطاقة الكهربائية لحوالي 6,1 مليون إنسان في البلدان النامية. وتشكل أفران الطبخ الحديثة إحدى الوسائل المساعدة. ففي أثيوبيا تبرز الحاجة الماسة إليها على سبيل المثال. حيث أن غالبية الأثيوبيين يطبخون على نار مفتوحة اعتمادا على الحطب أو الفحم، أو باستخدام أفران غير فعالة على الإطلاق، وتؤدي بالتالي إلى الكثير من الهدر. علاوة على أن الدخان المتصاعد من هذه الطرق البالية والأفران القديمة يتسبب في تسمم وقتل الأطفال والنساء. حيث يموت سنويا حوالي 1,6 مليون إنسان في العالم لهذا السبب، حسب تقديرات منظمة الصحة العالمية WHO. بالإضافة إلى ذلك تستلزم طرق الطبخ التقليدية مواد للاحتراق من حطب وغيرها، وهي غير متوفرة بكميات كافية في العديد من مناطق أثيوبيا. في المقابل تسبب أفران الطبخ الأكثر فعالية كميات قليلة جدا من الدخان، كما يمكنها توفير كميات خشب الاحتراق اللازمة بمعدل يصل إلى 60%. ولكن الناس في أثيوبيا يأكلون "إنجيرا" بشكل رئيسي، وهو عبارة عن خبز طري مصنوع من العجين المخمر. لهذا يجب أولا تطوير فرن خاص مناسب لخبز أنجيرا. "فرن ميرت" الدائري الشكل المؤلف من حلقة من الإسمنت وصفيحة من المعدن أو الفخار، يتيح للسيدات بديلا فعالا عن الطرق التقليدية. ولكن كيف يمكن نشر مثل هذا النوع من الأفران الحديثة؟ تعمل GIZ بطريقة تسويقية بحتة. "من ناحية أولى نحاول أن نشرح للناس فوائد الفرن الجديد الصحية والاقتصادية. ومن ناحية أخرى نقوم بتأهيل النساء والرجال ليصبحوا هم أنفسهم قادرين على صناعة الفرن الحديث"، حسب إنغا بوخهولتس، من مبادرة En-Dev. وتحظى سوق الأفران الحديثة الأكثر كفاءة بازدهار كبير في البلاد حاليا. تقول بوخهولتس: "تم تأهيل 630 منتج للأفران منذ 2005، كما تم تصنيع أفران حديثة لأكثر من 310000 إنسان". ناميبيامثال جميل عن قدرة فكرة ذكية على حل العديد من المشكلات في وقت واحد، تتجلى من خلال المشروع الألماني الناميبي "طاقة من أجل المستقبل". تعود المبادرة إلى شركة إنتاج الاسمنت "شفينك" في مدينة أولم، والتي تنشط في ناميبيا أيضا. منذ زمن طويل يعاني شمال شرق البلاد بشكل خاص من انتشار نوع من أشجار الأكاسيا بشكل كثيف، مما يؤثر سلبا على المراعي وبالتالي على الثروة الحيوانية. وقد باءت بالفشل محاولات الحكومة والمزارعين مواجهة هذه الظاهرة باستخدام المواد الكيميائية، والتخلص منها باليد أو بالآلات الكبيرة. وتزيد مساحة المراعي التي تعاني اليوم من هذه المشكلة عن 26 مليون هكتار. هذا التطور يهدد وجود الكثير من مزارع الحيوانات في شمال شرق البلاد. على العكس من ذلك، ترى "طاقة من أجل المستقبل" في هذه الأشجار مصدرا للطاقة. وقد قامت شركة شفينك بتطوير آلات من نوع خاص لقص هذه الأشجار، تكون محمولة على منصات متحركة. وقد قام العاملون في المشروع بتجربة الآلة على مدى شهور عديدة كي يتوصلوا إلى إمكانية قص الأغصان دون المساس بالنباتات والحيوانات. "بدلا من اقتلاع الشجيرة من جذورها، تقوم آلة القطع بقصها فقط. وهذا من شأنه تخفيف آثار الاحتكاك. علاوة على ذلك، تترك الآلة جزءا من جذع الشجيرات وأغصانها، بحيث يكون ملجأ للحيوانات وضمانة للمحافظة على التنوع الحياتي"، حسب أن-كاترين بفايفر المسؤولة عن ملف ناميبيا في وزارة التنمية الألمانية (BMZ). بعد فترة من التجارب المكثفة، سوف ينطلق المشروع. وسوف تقوم شركة تصنيع الإسمنت باستخدام الخشب الناتج كمادة وقود. "من خلال هذا الاستثمار يمكن للشركة توفير 55000 طن من الفحم وبالتالي تخفيف نفث الغاز العادم CO2 بحوالي 130000 طن" تضيف أن-كاترين بفايفر موضحة. تقدم وزارة التنمية الألمانية الدعم لهذا المشروع الهام من خلال قرض ميسر، يصل إلى 12 مليون يورو بفائدة منخفضة.بيرولا شك أن التعاون بين سياسة التنمية والشركات يحقق نجاحات أيضا في مجالات تنموية أخرى، كما هي الحال على سبيل المثال في مجال التزود بالمياه. من الناحية الحسابية البحتة، تتوفر في العالم كميات كافية من المياه النقية الصالحة للشرب. ولكن هذه المياه تعاني من توزيع غير منتظم جغرافيا وإقليميا. كل سادس إنسان في هذا العالم تقريبا يعاني من عدم حصوله على ماء نظيف صالح للشرب. النمو السكاني من ناحية، والاستخدام غير الفعال للموارد وتغيرات المناخ من ناحية أخرى، تقود كلها إلى تفاقم المشكلة وتكريس أزمة المياه في العديد من المناطق. ولكن كيف يمكن تخفيض استهلاك المياه، وتحسين نوعيتها، وتأمين حماية أفضل للموارد؟ الأجوبة على هذه التساؤلات سوف تقدمها مبادرة شراكة إستراتيجية في البيرو، انطلقت بتكليف من الوزارة الألمانية الاتحادية للتعاون الاقتصادي (BMZ) ويشارك فيها كل من شركة SAB ميلر، ثاني أكبر منتج للبيرة في العالم، والصندوق العالمي لحماية الحياة البرية (WWF)، والهيئة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ). خلال السنتين الأخيرتين تمكنت شركة SAB ملير في البيرو من تخفيض استهلاكها للماء بمعدل 7%. ولكن شركة البيرة تدرك أيضا أنه بمقدورها ضمان استمرار التزود بالماء فقط من خلال التعاون والتنسيق مع المؤسسات والمجموعات المحلية المهتمة والمستهلكين الآخرين في المنطقة، من أجل حماية الموارد الطبيعية المختلفة. يقول روبين فارينغتون من GIZ: "في ليما على سبيل المثال، يرتبط وجود وكيان كافة المستهلكين للماء بالموارد التي يتم استهلاكها بتسارع كبير. لهذا السبب تقع مصلحتهم جميعا في حماية هذه الموارد". ولهذا السبب تقوم مبادرة الشراكة الإستراتيجية بتحليل ودراسة المخاطر المحلية المحدقة بالماء، وتحصي مختلف الفئات المستهلكة له، كي تتمكن في النهاية من وضع خطط واقعية عملية. تقول السيدة فارينغتون شارحة: "نسعى من خلال شراكتنا إلى وضع آليات مبتكرة نتعاون بموجبها مع الشركات والدولة والمجتمع المدني، وقبل كل شيء مع المستهلكين كي نواجه جميعا المخاطر التي تهدد وجود الماء. لقد باتت تجربتنا مدرسة يتعلم منها الآخرون ويستفيدون منها". "شراكة مستقبل الماء" في البيرو تحولت حاليا إلى تحالف من مجموعة من الشركات التي تعمل يدا بيد مع الجهات العامة من أجل التوصل إلى إجراءات حماية مورد المياه، وتمويل هذه الإجراءات. فيتنامتتمتع الغابات بأهمية كبيرة جدا من أجل حماية الموارد المائية. وهذا ما يدركه المسؤولون في فيتنام أيضا. لهذا السبب وضعت الحكومة الفيتنامية هدف تشجير 40% من مساحة البلاد حتى العام 2015 نصب عينيها. وتلعب حماية الموارد والمناخ دورا أساسيا في تبني هذا الهدف. إلا أن الحكومة تسعى قبل كل ذلك إلى محاربة الفقر. ومن خلال تشجير الأراضي غير المزروعة يمكن توفير فرص العمل المستمرة والدخل الدائم للكثير من السكان. منذ تسعينيات القرن الماضي تعمل فيتنام بالتعاون مع ألمانيا على مشروع إعادة التشجير وإقامة الغابات. وهي تتبع في سبيل هذا طرقا جديدة. من يقوم بتشجير أرضه أو أرضا مستأجرة، فإنه يحصل إلى جانب الشتلات اللازمة على "دفتر توفير أخضر" يمكن أن يصل مبلغه إلى 250 دولار أمريكي عن كل هكتار يقوم بزراعته. وصل مبلغ التوفير لأسرة هونغ في العام 2002 إلى 600 دولار. "لأن زراعة الغابة تتطلب في السنوات الأولى الكثير من العمل، دون أن تؤتي أي دخل، تمكنا من اجتياز هذه المرحلة الحرجة ماليا بفضل هذه المساعدة"، يقول السيد هونغ. ولكن من أجل التمكن من سحب النقود من البنك، يجب على السيد هونغ إثبات أنه يقوم بالأعمال اللازمة في الأرض، التي تضاعفت قيمتها عشرين مرة، خلال عشر سنوات فقط. كما أصبح بمقدور الأسرة الآن جني الدخل منها والاستمتاع بشيء من حياة الرفاهية. تعتبر أسرة هونغ واحدة من حوالي 100000 أسرة في فيتنام، تساهم في عملية التشجير وتستفيد منها. وقد خصص بنك التنمية KfW لهذا المشروع مبلغ 70 مليون يورو بتفويض من وزارة التعاون BMZ. بهذا أمكن إعادة تشجير مساحة إجمالية وصلت إلى 130000 هكتار. يقول خبير الغابات في بنك KfW هوبيرتوس كراينهورست: "كل يورو يدفع الآن سيقود مع السنوات إلى تخفيض كمية ثاني أكسيد الفحم في الهواء بمقدار نصف طن". بالإضافة إلى أن كل يورو يضمن دخلا دائما لأسر صغار الفلاحين. ليست هذه المشروعات الخمس سوى أمثلة على العديد من مشروعات التعاون الألماني في مجال التنمية. إن مدى تحقيق أهداف التنمية المستدامة لا يعتمد فقط على صلاح الفكرة وعلى الرغبة الصادقة، وإنما قبل كل شيء على توفر الظروف الموضوعية المحيطة. التقنيات الحديثة مجدية فقط عندما تتوفر الخبرات اللازمة أو إستراتيجية المياه الضرورية. وهذا تماما ما تعمل لأجله وزارة التعاون الألمانية. كل تغيير يحتاج إلى إرادة سياسية، تساعد على تمهيد الطريق من خلال القوانين والمبادرات الخاصة. وليس من النادر أن تصطدم أفكار ومبادرات بجدار من التصلب الرافض للتغيير. يجب على الأفكار الجديدة وآليات التغيير أن تثبت أنها أفضل، وأنها أكثر استدامة.