الحياة بين الذخائر غير المنفجرة
سواءٌ في القرى أو الحقول أو المباني المدرسية: تكمن الألغام في كل مكان في سوريا تقريبًا. وتعمل منظمة (هالو تراست) على إزالتها – بدعمٍ من ألمانيا.
ظلت المدرسة الابتدائية في خان شيخون خاويةً على عروشها لسنواتٍ عدة. اكتسبت المدينةُ الواقعةُ في محافظة إدلب، شماليّ غرب سوريا، سمعةً مُحزنةً خلال الحرب الأهلية؛ بسبب الهجوم الذي وقع عليها بالغازات السامة في عام 2017. كما شهدت صراعاتٍ لفترةٍ طويلة، وما تزال الكثيرُ من مبانيها مُدمَّرةً حتى يومنا هذا. تمتلئ جدرانُ المدرسة الابتدائية أيضًا بثقوبٍ ناجمة عن طلقات الرصاص. لسنواتٍ طويلة، لم تكن الاستفادةُ من المباني ممكنةً؛ بسبب امتلاء المكان بالذخائر غير المنفجرة جرَّاء الحرب الأهلية. لكن الآن يركض الأطفالُ في فناء المدرسة، يلعبون كرة القدم ويتحدثون عن موضوعاتهم المفضلة. استُؤنِفَت الدراسةُ منذ خريف عام 2025 – بعد أن طهَّرت المنظمة الإنسانية لإزالة الألغام (هالو تراست) المنطقةَ من العبوات الناسفة.
تعمل هذه المنظمة غير الحكومية -منذ عام 2017- على إزالة الألغام والذخائر غير المنفجرة في سوريا، وتوعية السكان المحليين، ورسم خرائط لحقول الألغام. تأسست المنظمةُ في أفغانستان في عام 1988، وتنشط الآن في أكثر من 30 دولة ومنطقة، في إفريقيا وآسيا وأوروبا والقوقاز وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. يقول فاروق المصطفى، مديرُ العمليات في منظمة (هالو تراست): "كان لدينا مكتبٌ واحدٌ فقط في شماليّ غرب البلاد، قبل سقوط الأسد؛ أمَّا الآن، فلدينا عدة مكاتب في جميع أنحاء سوريا – بما في ذلك في حلب ودير الزور ودرعا، وقريبًا أيضًا في حمص ودمشق". كان هناك آنذاك 40 موظفًا مسؤولين عن إزالة الألغام والاستطلاع في المنطقة؛ وزاد عدد أفراد الفريق بحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2025 إلى أكثر من 200 موظف؛ إذ استقطبت المنظمةُ الموظفين الآخرين من السكان المحليين. وبعد أن أكملوا تأهيلاً مهنيًا، تولَّوا مهام زملائهم الدوليين تدريجيًّا. تمكَّنت منظمة (هالو تراست) من تطهير ما يزيد على 330,000 متر مربع من مُخلَّفات المتفجرات في سوريا.
تتلَّقى منظمةُ (هالو تراست) في هذا الصدد دعمًا من ألمانيا. يقول المصطفى: "تُسهِم ألمانيا بقدرٍ كبيرٍ في تعزيز الاستقرار في سوريا، من خلال المشاركة في تمويل إزالة الألغام". موَّلت وزارة الخارجية الألمانية -في عام 2025- عملَ منظمة (هالو تراست) في سوريا بنحو خمسة ملايين يورو. وتُعدُّ ألمانيا -بإجمالي 70 مليون يورو- واحدةً من أكبر المانحين في العالم لإزالة الألغام والذخائر، في مناطق الصراع السابقة والحالية. ولهذا الغرض، تتعاون وزارةُ الخارجية بشكلٍ أساسيّ مع منظماتٍ في المناطق المتضررة.
مشاركة ألمانيا في إزالة الألغام
تستند مشاركةُ ألمانيا في إزالة الألغام إلى حدٍّ كبيرٍ على معاهدة أوتاوا، تلك الاتفاقية الدولية المُلزِمة التي حظرت في عام 1997 استخدامَ الألغام المضادة للأفراد وتصنيعها ونقلها. وبالتصديق على المعاهدة، لم تلتزم جمهورية ألمانيا الاتحادية بالنزع الكامل لمخزونها الخاص فقط، بل آلت على نفسها كذلك أن تدعم الدول المتضررة؛ من أجل التغلب على العواقب الإنسانية الناجمة عن الألغام والمخلفات المتفجرة.
الألغام والذخائر غير المنفجرة تعرقل إعادةَ الإعمار
يقول المصطفى: "نطاق التلوث بالمتفجرات في سوريا هائل". تعاني محافظة إدلب السورية من ذلك بشدة؛ إذ خضعت المنطقة لسيطرة ميليشيا هيئة تحرير الشام الإسلاموية الجهادية منذ عام 2017، وظلَّت أكبرَ معقلٍ للمتمردين ضد الأسد حتى سقوطه. ونتيجةً للتحوُّل المستمر لخطوط المواجهة في خضم الحرب، تعاني مناطقُ ريفيةٌ أخرى في سوريا أيضًا من الألغام ومخلفات المتفجرات، مع عواقب وخيمة على الحياة اليومية. كانت إدلب في السابق سلة غلال البلاد؛ بفضل تربتها الخصبة، لكن اليوم لم يبقَ من ذلك إلا النزر اليسير.
ولا يزال العديد من الأشخاص يعيشون في الخيام، أو عادوا إلى منازلهم التي تعرَّضت لأضرارٍ بالغة. وما انفكت مدارسُ عديدةٌ تغلق أبوابها بسبب بقايا الذخائر المتفجرة، التي تُشكِّل خطرًا داهمًا. ويتردد المزارعون في زراعة حقولهم بسبب حوادث الألغام المتكررة؛ إذ وفقًا لمنظمة (هالو تراست)، قُتل 585 شخصًا، بينهم 165 طفلاً، بسبب الألغام والذخائر غير المنفجرة منذ سقوط الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024. وأُصيب أكثرُ من 1000 شخصٍ آخرين (إصدار: نوفمبر/تشرين الثاني 2025). لكن من المرجح أن يكون العددُ الفعليُّ أعلى من ذلك بكثير، نظرًا لعدم وجود سجل مركزي للحوادث، وغياب هيئة تنسيق شاملة. تقول صبا عبد الكريم، رئيسة قسم الاستكشاف غير التقني في منظمة (هالو تراست): "تزداد الحوادثُ المتعلقة بمخلفات المتفجرات منذ سقوط الأسد". وتؤدي حرية التنقل الوليدة وعودة عائلات اللاجئين إلى زيادة خطر الإصابات الناجمة عن مخلفات الحرب؛ حيث عاد أكثرُ من 1.25 مليون شخص إلى سوريا منذ ديسمبر/كانون الأول 2024.
التوعية تنقذ الأرواح
تتلقى منظمة (هالو تراست) في سوريا يوميًا عدة تقارير عن اكتشاف حقول ألغام وقذائف مدفعية قابلة للانفجار. يوضح عبد الكريم قائلاً: "عندما نتلقى معلومات، تُكوِّن فِرَقُنا أولاً انطباعًا أكثر تفصيلاً عن الوضع. تسأل السكانَ عن الاكتشافات المحتملة، وتُوثِّق البقايا، وتفحص المواقع". فإذا زاد وضوح الأدلة على وجود حقل ألغام، تبدأ منظمة (هالو تراست) عملية تحديد موقعه، ثم تطهيره.
تستخدم المنظمةُ جرَّافاتٍ أمامية التحميل في عمليات التطهير واسعة النطاق في سوريا. وهي عبارة عن جرارات مزوَّدة بدلو حفار خاص، يساعد في استخراج الألغام والمتفجرات من الأرض وتنقيتها. ستةٌ منها تُطهر حاليًا حقل ألغام مساحته نحو 300,000 متر مربع، على خط المواجهة السابق بين هيئة تحرير الشام ونظام الأسد. وعثر الفريق حتى الآن على نحو 50 عبوة ناسفة في المنطقة. وتُزيل المنظمة أيضًا البقايا المتفرقة. فإذا كانت تقع في منطقة غير مأهولة، تُفجَّر غالبًا بطريقة خاضعة للتحكم؛ لتجنُّب نقل البقايا غير المستقرة.
تُركِّز منظمة (هالو تراست) -بجانب إزالة الألغام- على التوعية؛ لتقليل المخاطر التي تُهدِّد السكان. يقول المصطفى: "نُقدِّم دوراتٍ توعوية في المدارس والقرى والتجمعات السكنية". وتُقدِّم المنظمة كذلك دروسًا توعوية في المدرسة الابتدائية في خان شيخون. ووصلت (هالو تراست) بالفعل إلى أكثر من 708,000 شخص.