إلى المحتوى الرئيسي

الاندماج السريع

مشروع مجدٍ يؤتي ثماره ولو بعد حين

30.12.2015

في أيلول/سبتمبر 2015 أثارت واحدة من القصص المؤثرة موجة من الاهتمام في أوساط النقاش الدائر حول مسألة اللاجئين. لاجئ من أفغانستان ساقه القدر إلى جزيرة زولت الألمانية في بحر الشمال للاستفادة من فرصة تأهيلية حصل عليها تحديداً على أرض هذه الجزيرة الوادعة الشهيرة برقيها وعراقتها. الشاب الذي قصد ألمانيا هارباً من بطش طالبان قادته رحلته إلى شقة جماعية للاجئين على أرض جزيرة زولت. مدفوعاً بالرغبة في أن يكون فرداً منتجاً في محيطه توجه الشاب إلى أحد فنادق الجزيرة سائلاً عن عمل. لم يتردد السيد كلاس إيريك يوهانسن، مدير فندق بينن ديكن هوف في منحه الفرصة، وبادر للتو إلى تعيينه كمساعد مزارع في حديقة الفندق - وقد أعجب السيد يوهانسن كثيراً بما لمسه لدى الشاب من حماسة ونشاط، ما دفعه إلى أن يعرض عليه في أواخر الصيف عقداً للتأهيل المهني يتيح له أن يشغل لاحقاً موقعا فعالا في مجال المطاعم. وقد أثبتت الأيام أن هذا القرار كان قراراً صائباً ومجدياً لجميع الأطراف. السيد يوهانسن الذي كان بحاجة ماسة إلى عناصر إضافية من العاملين والمتدربين، وجد في هذا الشاب دماً جديداً يفيض حماسة واندفاعاً. كذلك فقد حظي الفندق على هامش هذه القصة بدرجة لافتة من الاهتمام على امتداد ألمانيا. صفحة الفندق على الفيسبوك زخرت بطيف عريض من التعليقات الإيجابية بدءاً من "ليت الجميع يفكرون ويتصرفون على هذا النحو" وصولاً إلى "لهذا السبب نشعر، نحن اللاجئين، بالارتياح بين ظهرانيكم".

 

لكن في الحقيقة: إدخال اللاجئين إلى سوق التأهيل المهني أو العمل لا يسير دائماً بهذه السهولة والبساطة. بعض العوائق البيروقراطية ظلت صامدة حتى خريف 2014. منذ ذلك الحين تنص التشريعات الجديدة على التالي: خلال الأشهر الثلاثة الأولى، لا يحق للاجئين مزاولة العمل. بعدها يسمح لهم طيلة عام كامل بمزاولة الأعمال الثانوية، ويقصد بهذا الأعمال التي لا يرغب بها أي من مواطني الاتحاد الأوروبي. وطوال مدة دراسة طلب اللجوء يتوجب على طالب اللجوء أيضاً مراجعة الجهات المختصة بشكل دوري من أجل تجديد بعض الأوراق والتصاريح كتصريح الإقامة على سبيل المثال. أما حق العمل دون قيود فلا يتمتع به اللاجئ إلا بعد صدور الحكم بقبول طلب اللجوء. وهذا قد يستغرق زمناً طويلاً نظراً لما نشهده اليوم من تدفق كبير للاجئين نحو ألمانيا. وعلى خلفية النقص في الكوادر المتخصصة تعلو في أوساط خبراء الاقتصاد والمستثمرين والاتحادات المعنية بحركة الاقتصاد الألماني أصوات كثيرة تطالب بمزيد من المرونة في تكييف التشريعات الناظمة لحق اللجوء وقوانين الهجرة مع متطلبات الاقتصاد. ولدينا اليوم مئات المبادرات التي تم تشكيلها من قبل غرف الصناعة والتجارة واتحادات الحرفيين والشركات المتوسطة وغيرها، هؤلاء بحاجة إلى طاقات عاملة، لكنهم أيضاً بحاجة إلى بعض الدعم من قبل صناع السياسة.

 

بالنسبة للخبير الاقتصادي البارز مارسيل فراتشر، المستشار السياسي ورئيس المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW في برلين، فإن السؤال الرئيس في الجدل الدائر حول مسألة اللاجئين إنما يتمحور حول كيفية إدخال هؤلاء إلى سوق العمل بسرعة ونجاح. "تحقيق الاندماج السريع لا يتوقف على اللاجئين وحدهم، بل إنه يتعلق في المقام الأول بدورنا وبالجهود التي نبذلها كي نعطي هؤلاء الأشخاص فرصة حقيقية"، يقول فراتشر. "علينا أن ننظر إلى التكاليف المترتبة على رعاية اللاجئين، الراغبين بالبقاء في ألمانيا، على أنها شكل من أشكال الاستثمار، تماماً كما ننظر عموماً إلى تكاليف رياض الأطفال والمدارس وغيرها من الخدمات التربوية والتعليمية التي نقدمها لأولادنا على أنها استثمارات طويلة الأجل لا تعطي ثمارها إلا بعد سنين طويلة."

 

لا يشترك الجميع مع السيد فراتشر في هذه النظرة بعيدة المدى. السيناريوهات المطروحة في الجدال الراهن تغطي طيفاً عريضاً يبدأ بالحديث عن خطر "البطالة الشاملة" ولا ينتهي عند الحديث عن "فرصة القرن" التي لا يجوز تفويتها. مارسيل فراتشر ينظر إلى الأمر بموضوعية، وبكثير من التفاؤل. لقد كان فراتشر مع فريق عمله في DIW أول من بادر إلى حساب مختلف السيناريوهات المحتملة. والنتيجة: "نعم، سيل اللاجئين يمثل فعلاً على المدى القريب تحدياً كبيراً من الناحيتين المالية والتنظيمية"، يقول فراتشر. ولكن: "حتى لدى افتراضنا السيناريو المتشائم، فإننا نجد أن متوسط دخل الفرد لعموم الأشخاص المقيمين في ألمانيا سوف يأخذ بالازدياد بعد حوالي عشر سنوات"، يقول زميله سيمون يونكر، نائب رئيس قسم السياسات الاقتصادية في المعهد الألماني للبحوث الاقتصادية DIW. "وعند افتراض الشروط الأقل سوءاً، يمكن أن يظهر المفعول الإيجابي بسرعة أكبر، ربما خلال أربع إلى خمس سنوات."

 

المخاوف وبواعث القلق من أن اللاجئين سوف يسحبون البساط من تحت الألمان ومواطني الاتحاد الأوروبي عموماً ويسلبونهم وظائفهم، يستطيع هيربرت بروكر من معهد البحوث المهنية وبحوث سوق العمل IBA أن يفندها بحجج تجريبية. "لقد تمكنا خلال السنوات الخمس الأخيرة من توفير مليون فرصة عمل للوافدين الأجانب"، يقول السيد بروكر. وفي الوقت ذاته فقد سجل معدل تشغيل الألمان أنفسهم ارتفاعاً ملحوظاً أيضاً، على حد قول السيد بروكر، ودون أن يرافق ذلك أي انخفاض في مستوى الأجور.

 

خلال الفترة الممتدة من تشرين الأول/أكتوبر 2014 ولغاية أيلول/سبتمبر 2015 تمكّن 67900 مهاجر من الحصول على عمل في ألمانيا، تبعاً لبيانات وزارة العمل الألمانية. عدد كبير من هؤلاء، يفوق بوضوح المعدل الوسطي، حط رحاله في قطاع البناء، أو قطاع الخدمات، أو قطاع الخزن والمستودعات، أي على العموم في السوية الدنيا من سويات سوق العمل. وهذه الطريق لا ينبغي على الإطلاق أن تكون الطريق الوحيدة المتاحة أمام اللاجئين، بل على العكس تماماً. في العديد من المدن الألمانية الكبرى، يجري اليوم وضع ما يعرف ببرامج التدخل المبكر، والتي يتعاون على رعايتها كل من الوكالة الاتحادية للعمل والمكتب الاتحادي لشؤون الهجرة واللاجئين BAMF، موضع التنفيذ العملي. هدف هذه البرامج: اكتشاف المهارات والقدرات الكامنة لدى اللاجئين بشكل مبكر من أجل تعزيز قدراتهم وتحفيز مواهبهم بشكل موجه، ومن ثم ترشيحهم للحصول على وظائف تخصصية – وهذا يستوجب في أغلب الأحيان الوصول إلى مستوى جيد من إتقان اللغة الألمانية – أو مقاعد دراسية في اختصاصات دقيقة ومتطورة. ويمكن القول إن النتائج الأولية إيجابية إلى حد كبير. معظم هؤلاء يحملون في جعبتهم قدرات ومهارات معينة، يرغبون في العمل، ويريدون أن يحققوا شيئاً، وهم يتمتعون قبل هذا وذاك بقدر كبير من الحماسة والاندفاع، هذا ما يجمع عليه مدراء مشاريع التدخل المبكر دونما استثناء.