إلى المحتوى الرئيسي

الانطلاق في أبعاد جديدة

بات السير المتحرك من الماضي. اليوم يتم الإنتاج بشكل فردي وشخصي: الطابعة الثلاثية الأبعاد تجعل ذلك ممكنا.

13.01.2014
© Jonas Ratermann - 3D Printing

لقد كانت مجرد سلسلة دراجة، تلك التي غيرت مسيرة حياة أندي ميدلتون بين عشية وضحاها. رغم أنه لم يكن في الأمر أي شيء مذهل. كما أن هذه السلسة لن تساعد أبدا في تحريك أية دراجة حقيقية. فهي مصنوعة من البلاستيك الأبيض. يتناول أندي ميدلتون السلسة بيده ويترك كل قطعة منها تتسلل بين أصابعه. يتأمل كل قطعة بلاستيكية بكل دهشة وتركيز. وكأنه مازال غير مصدق لما يراه ويلامسه بين أصابعه. ليس هذا الشيء بالنسبة له مجرد سلسلة دراجة من البلاستيك. الأمر بالنسبة له عبارة عن معجزة صغيرة. فالسلسة قد تمت صناعتها بواسطة طابعة ثلاثية الأبعاد.

 

مرت خمس سنوات على مسكه سلسلة الدراجة للمرة الأولى. حينها تعرض لسؤال، فيما إذا كان يريد العمل مع أوبيت، وهي شركة إسرائيلية لإنتاج الطابعات الثلاثية الأبعاد. وقد عُرِضَ عليه يومها أن يكون مسؤولا من موقعه في ألمانيا عن أعمال الشركة في مناطق EMEA، أي أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا. آنذاك لم يكن له أية علاقة سابقة مع تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد التي كانت معروفة في أوساط المتخصصين. "ثم شاهدت سلسلة الدراجة الخارجة من الطابعة الثلاثية الأبعاد وأدركت مباشرة أنني أريد القيام بهذا العمل"، يتذكر البريطاني الملتحي.

الآن يجلس على مقعد جلدي أسود في مكتبه المُنير ويعيش في عالم آخر. ليس فقط لأنه انتقل مع زوجته وولديه من العيش في دوسلدورف الأنيقة إلى بادن-بادن التي يقول عنها أنها "مريحة"، بالقرب من راينمونستر، حيث مقر EMEA. أو لأنه اليوم يقود فريق عمل من 100 إنسان، بدلا من عامل واحد في البداية. وإنما أيضا لأن الشركة التي وظفته في عام 2008 لم تعد على ما كانت عليه قبل خمس سنوات.

 

من أوبيت ولدت شركة شتراتاسيس (Stratasys)، التي تمكنت بفضل "مصفوفة بوليغيت" تطوير طابعة خاصة ثلاثية الأبعاد تصلح للاستخدامات الصناعية وتحولت قبل عام إلى شركة أمريكية-إسرائيلية عملاقة رائدة في السوق العالمية، وتقوم بالإنتاج للعديد من المجموعات. قبل بضعة أشهر اشترت شركة شتراتاسيس شركة مراكر بوت، وأصبحت اليوم تلبي متطلبات الزبائن من القطاع الاستهلاكي والأفراد، الذين يرغبون في ابتكار فنجانهم الخاص في البيت، أو محفظتهم الخاصة لجهاز الهاتف الذكي (سمارت فون) أو صناعة مكونات ألعابهم الفريدة المتميزة.

 

كل هذا ممكن بفضل الطابعة الثلاثية الأبعاد. وغيره الكثير أيضا. فالسبب الحقيقي لحياة مدير EMEA في عالم متغير آخر اليوم يكمن في تقنية الطباعة الثلاثية الأبعاد. باستمرار يزداد عدد الشركات والهواة الموهوبين الذي يشترون طابعة ثلاثية الأبعاد. في 2012 حققت الشركة المنتجة للطابعات الثلاثية الأبعاد حجم مبيعات عالمية وصل إلى 2,2 مليار دولار. وقد توقع الأمريكي تيري وولرز، الخبير في هذا القطاع، أن تنمو المبيعات حتى 2015  لتصل إلى 3,7 مليار دولار. وحسب أندي ميدلتون، تشكل ألمانيا أحد أهم الأسواق. "يمتلك قطاع الصناعة الألماني الآن ما مجموعه 8500 طابعة ثلاثية الأبعاد، وبذلك تحتل ألمانيا المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة".

 

إنها تكاد تكون مهارات سحرية، تلك التي يتم نسبها إلى الطابعة الثلاثية الأبعاد. "إنها تُنهي عصر الإنتاج على السير المتحرك وتقود إلى حقبة جديدة في عالم الصناعة"، يقول ميدلتون باختصار. حيث أنه باستخدام هذه التقنية يمكن إنتاج كميات كبيرة من السلع الفردية التي تلبي المتطلبات والاحتياجات الخاصة للزبون، خلال فترة قصيرة وبأعباء مادية ومالية منخفضة. درجة الإبداع العالية التي تتميز بها لا يكاد يراها المرء من الشكل الخارجي لها: فهي على شكل صندوق، ولها لون واحد. وهي ليست جميعها قليلة الضجيج. وما يجري في أعماقها يمكن مشاهدته من خلال جانب شفاف. عندما تنتهي "طباعة" قطعة ما، يمكن للمرء فتح الغطاء وكما على صينية الضيافة، يمكنه التقاط القطعة المرغوبة. إحدى تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد يمكن مقارنتها بالطابعة العاملة بنفث الحبر. مادة سائلة في البداية يتم نقلها عبر رأس الطابعة الذي يضم العديد من النفاثات، حيث يتم نفثها تدريجيا، ثم تجف وتصبح قاسية بفضل أشعة فوق البنفسجية. بهذه الطريقة تتمكن الشركات من إنتاج عينات ونماذج لمنتجاتها. شبيهة بسلسلة الدراجة البلاستيكية التي أقنعت أندي ميدلتون ذات يوم من الأيام.

 

نماذج سيارات صغيرة، يحتاجها منتجو السيارات لأغراض العرض والشرح. الطابعة الثلاثية الأبعاد تتيح لهم إجراء التعديلات وتحضير نماذج مختلفة ومتنوعة في ذات الوقت وخلال زمن قصير، بسرعة وبتكلفة منخفضة ودون الكثير من الأعباء والجهود، كما يمكنهم في ذات المكان والساعة اختيار الموديل أو النموذج الأفضل والأكثر مواءمة. إنهم يحققون المبيعات خلال وقت أسرع، كما يحققون وفرا كبيرا في المواد الأولية وفي التكاليف والجهود لأنهم يستهلكون فقط المواد الأولية الضرورية دون أي هدر أو إسراف. مجالات الاستخدام تكاد تكون غير محدودة. مدير EMEA يمسح بأصابعه شعره الرمادي المسرح نحو الخلف بعناية ويبدأ العد: أحذية ليدي غاغا، قطع تبديل للغسالة، قطع لطائرات بوينغ، مواد غذائية، بيوت، أسنان، عظام، وحتى برتقالة وأعضاء صناعية يمكن "طباعتها" هنا. ولكن أندي ميدلتون يخصص أكبر توقعاته لعالم الطب. فهو يتحدث عن جراحين يصنعون نموذجا عن ورم في الدماغ، بغية التدريب قبل إجراء العملية. "يفرح المرضى بزيادة احتمالات نجاح العملية، وتفرح صناديق التأمين الصحي بتخفيض النفقات"، حسب ميدلتون. وهو على قناعة تامة من أن الإنتاج الواسع أو الوفير سوف ينتهي قريبا، وأن الإنتاج سوف يعود من الدول ذات أجور العمل المنخفضة إلى البلدان الصناعية التقليدية.

 

إلى جانب هذه المنتجات "الشخصية" التي تتيحها الطابعة الثلاثية الأبعاد، تدور "الثورة الصناعية القادمة" حول نقطة أخرى: الإنتاج الفردي. فمن خلال تبني التقنية الرقمية في عملية الإنتاج تغدو هذه الأخيرة أكثر مرونة وذكاء وبالتالي أكثر فعالية. هذا الاتجاه الثاني يثير أغرب الأحلام التي يجعلها حقيقة. منها على سبيل المثال مكونات الإنتاج التي تتحرك وكأن يد عفريت غامضة تقودها عبر أنظمة نقل تسير تلقائيا، وتقدم عبر شبكة لاسلكية معلومات عن العمل اللازم لإنتاجها. إلا أن الصناعة مازالت عالقة في بعض مراحلها في البعد الثاني. وتتجلى ثنائية الأبعاد هذه من خلال تكديس أكوام الورق على سبيل المثال.

 

يوهان هوفمان يعرف "اقتصاد الورق" في الكثير من الشركات. قبل 26 عاما كاد المتخصص في التصنيع أن يفقد صوابه بين أكوام الورق المتكدسة. بعد انتهائه من دراسة هندسة بناء الآلات، بدأ العمل في مجال برمجة الآلات في شركة بناء الآلات راينهاوزن (MR) في ريغنسبورغ. وهي الشركة الرائدة في السوق العالمية في مجال مفاتيح التبديل المرحلية. وتعمل منتجات الشركة على الحفاظ على ذات التردد الثابت في شبكات التغذية الكهربائية التابعة للشركات المنتجة للطاقة. وباعتباره مهووسا بالبرمجة فرح هوفمان كثيرا بالجلوس طول النهار أمام الكومبيوتر وتغذيته بالبيانات والرموز. إلا أن الزملاء في قسم الإنتاج أحبطوا خطته. فلم يعد قادرا على العمل بهدوء، لأنهم كانوا يقاطعونه باستمرار.

 

ما كان في الثمانينيات يعتبر جزءا من الحياة اليومية في المصانع، يُعتَبَر اليوم أمرا لا يمكن تخيله بالنسبة لهوفمان: طلبيات قادمة، كان يتم تدوينها جميعا على الورق، وتحفظ ضمن ما كان يعرف باسم ملفات (أضابير) العمل، التي تتم مناولتها من قسم لآخر. "كان هناك سيدتان تقومان طوال اليوم بنقل وتسليم هذه الملفات إلى العاملين على الآلات أو المختصين بتركيب ومعايرة العدد والأجهزة أو رؤساء الفئات والأقسام". وفي حال أي تغيير أو تعديل في الطلبية – وهو أمر كان كثير الحدوث – فإن هذا الملف يعود إلى السيدتين بعد إجراء التعديلات اللازمة عليه بالكتابة والشطب يدويا، حيث تقوم السيدتان بدورهما بتسليم هذا الملف إلى هوفمان. صحيح أن هوفمان القادم من مناطق أوبربفالتس رجل صبور، إلا أن هذه المقاطعة المستمرة للعمل كانت تفوق كل احتمال. كان في ذلك الحين في بداية مسيرته المهنية. ولهذا أدرك أنه إذا أراد الاستمرار في تأدية عمله الذي يحبه، فإن عليه أن يغير أمرا ما.

 

تمكن هوفمان من تحقيق هذا الهدف، رغم مرور عشرات السنين. اليوم تجري أعمال الإنتاج في شركة صناعة الآلات راينهاوزن معتمدة على أساس الويب الإلكتروني بشكل كامل. وهذا يعني: الأوراق والوثائق والملفات أصبحت من الماضي. فأعمال الإنتاج تتم دون استخدام الورق. وليست هذه كل إنجازات يوهان هوفمان. فقد سعى أيضا إلى تحقيق التواصل المستمر باستخدام التقنية الرقمية بين جميع المشاركين في العملية الإنتاجية، سواء كانوا بشرا أو آلة، وهذا يشمل مثلا المسؤول عن المستودع والعامل الماهر رئيس الفئة ومراقب الجودة إضافة إلى آلات الإنتاج، وقد ضمن بهذا أن يكون الجميع دائما على دراية بأحدث المعلومات المتعلقة بالعملية الإنتاجية. كل هذا يتم بفضل محور رقمي (ديجيتال) للبيانات يلعب دور حلقة الوصل بين الجميع، فيما يعرف باسم نظام سايبر فيزيائي cyberphysisch .

 

يقارن هوفمان ابتكاره بتنظيم أعمال وحركة المطار. "تخيل أن الطيار هبط بطائرته وأن عليه أن ينجز كافة الأعمال شخصيا. يجب عليه الحصول على المعلومات عن الموقع الذي يجب أن يركن طائرته فيه، وأن يطلب من الملاحين الأرضيين إرشاده وقيادته إلى الموقع، ويعطي تعليماته لطاقم الخدمات الأرضية بشأن تفريغ الحقائب. ويتوجب عليه فوق ذلك كتابة استمارات وأوراق لكل هذه المهمات". بشكل مشابه كانت الأعمال تتم سابقا في شركة MR. يضيف هوفمان غاضبا: "وفي الكثير من المصانع الألمانية تسير الأمور هكذا حتى اليوم". صحيح أن تحقيق النجاح ممكن في ظل هذه الظروف، وهذا ما تؤكده أرقام الصادرات الألمانية. إلا أن المتطلبات المفروضة على الشركات المنتجة في تزايد مستمر. نيكولاس ماير-شويبيك، مدير شركة MR ورئيس هوفمان يضع يده على النقطة الصحيحة شارحا: "يحصل كل زبون على طلبه حسب رغبته الخاصة، ولكن ضمن المصنع يجب توحيد طريقة وأسلوب العمل".

 

استغرق الأمر 20 عاما حتى أصبح بالإمكان تسيير هذه الأعمال بلا أية مشاكل. ولا يستغرب هوفمان اليوم السؤال المتكرر عن سبب هذه الفترة الطويلة التي احتاجها لتطوير هذه الحلول: "كان من الضروري في البداية أن نحصل على نظرة شاملة لكافة البيانات والمعلومات ذات الصلة، لكي نتمكن من إيجاد الطريق الصحيحة في ربط كل هذه الأمور بشكل ذكي. ومع مثل هذه الكمية الهائلة من البيانات كان لابد من بعض الوقت". وهو فخور اليوم بأن حلوله التقنية تلبي متطلبات تأسيس المصنع الرقمي الحديث. يقول ضاحكا: "أمر جميل، أن يوجد اليوم اسم جديد تم ابتكاره، صناعة 4.0".

 

بعيون تشع فرحا يسير عبر صالة الإنتاج وهو يتحدث عن أنه لا يوجد اليوم شيء أجمل بالنسبة له من أن يسمع الآلات وهي تتحدث مع بعضها. إضافة إلى معرفة ما تتحدث عنه تماما. إنه لا يستطيع حتى الآن، بعد عشرات السنين على بداية مسيرته المهنية في الشركة العائلية أن يقوم بالبرمجة بهدوء دون مقاطعة. إلا أن هذه لم تعد الآن مهمته. صحيح أن الزملاء كثيرا ما يطرقون باب مكتبه لأنهم بحاجة إلى اقتراح معين من أجل تحسين وتطوير أمر ما. وهو يبدي سعادته الغامرة لأنه في أغلب الأحيان يتمكن من تحسين وتطوير الحلول التي تساهم في الاقتراب قليلا من تحقيق حلمه في التشابك التام.